مجموعة انسان

إنسان أنا ،،، يتجمع بداخلي مجموعة بشر ،،،

أحمد الشكيلي



" قــيّـد ألفاضك وراقب أفكارك واحسب للكلمة حساباً فإن الزلة ذلة وخطل الكلم يوجب الندم "
قرأتها في كتاب : قصائد قتلت أصحابها لعائض القرني

الاثنين، 5 أكتوبر 2009

بـــدور


* بدور

وحيدة تقف على ذاك الرصيف بوجهها الشاحب ، تأكل الشمس نظارة بشرتها الجميلة ، تعتصرها هموم حياة أجبرتها الأيام والظروف على أن تعيشها ، مسكينة تتقاذفها الأرصفة بين جزر ومد ، لكنها تصارع لأجل البقاء على رصيف واحد ، براءتها الطفولية تمنعها من البوح بكل شيء .. عندما تأتي لتتكلم تتداخل عندها الكلمات وتتلعثم عند النطق بها ، لا يفهمها أحد سوى نفسها .


يا للمسكينة تلفحها حرارة الشمس فتهرول باحثةً عن جدار تتفيأ ضلاله فلا تجد سوى ظل شجرة ميتة لوى الجفاف أوراقها وأكلت الشمس خضرتها .حرارة الجو الشديدة تحبسها وقت الظهيرة فلا تبرح مكانها إلا مستمسكة بذاك الجدار الذي اعتاد على الاحتكاك بظهرها الطفولي ، تقضي ظهيرة كل يوم في نفس المكان وكأنه أصبح ملكاًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًً لها لا ينافسها أحدٌ فيه برغم موقعه الاستراتيجي الذي يطل على الشارع المؤدي إلى الحي التجاري في المدينة ، تقبع هناك لوحدها تقتات على فتات خبز يابس اعتادت أن تصره في خلقة بالية بعد أن تجمعه ممن يعطفون عليها فالدنيا ما تزال تحتفظ بقدر يسير من المحسنين اللذين أدخل الله الشفقة في قلوبهم وباتوا يمتلكون شيئاً من العطف والحنان لينثروه عبيراً على الأرض.


تمضي ساعات الظهيرة على بدور ببطء شديد ، هذا الوقت يمثل محطة استراحة قصيرة بل هي بيات ظهري تقضيه بدور تحت هذا الجدار يلفحها هواء ساخن وتقض مضجعها أصوات السيارات المارة من على هذا الطريق ولكن تبقى بدور حبيسة هذا المكان ، فجو المدينة حارٌ جداً وليس بمقدورها الانتقال الآن من مكان لآخر فالشمس تسطع في كبد السماء والوقت صيف قائظ وقطرات العرق تسيل منها وكأنها السيل، اختلاط العرق بالجسد ممزوجاً بالأتربة المتراكمة على ملابس بدور ينتج رائحة طيبة كأنها المسك .


تدب الحياة الى المدينة من جديد فقد حان وقت العصر وها هم المصلون يخرجون من المساجد فيتجهون كل منهم إلى سبيله ، قضاء مصالح شخصية ، تسوق ، زيارات وغيرها كل حسب ما يعن في خاطره .


أحدهم يمتطي صهوة سيارته الفارهة التي بالكاد يتسع لها شارع الحي ، يبدو أنها أحدث ما أنتجته التكنولوجيا ، يطوف بها شوارع الحي عصر كل يوم متفاخراً بها، بكبرياءٍ يضع يده اليمنى على منضدة جانبية تفصل بين المقعدين الأماميين في السيارة ، يميل بجسده نحو اليمين، يمسك مقود السيارة بأطراف أصابع اليد اليسرى ، أصوت الموسيقى الصاخبة تهز كل بقعة تطاءها عجلات سيارته ، يستهجن الناس تصرفاته المغرورة هذه ولكنهم في المقابل اعتادوا عليه وعلى أمثاله فالحي يحتوي على شرذمة قليلين من أمثاله ممن لا يعرفون تسخير المال إلا للمظاهر والكبرياء ، يقود سيارته بجنون وتهور ويداعب أزرار هاتفه بيمناه،وها هي خطوط عبور المشاة أمامه وها هم المارة يقطعون الشارع في المساحة المحددة لهم لا يعبرون إلا بعد التأكد من وقوف السيارات القادمة ، بينهم جسد طفولي صغير نحيل يرتدي لباساً يميل إلى اللون البني وكأنه لباس بدور ، نعم إنها بدور يبدو أنها قد فاقت من غفوتها ووصلت إلى هذا المكان كعادتها سيراً على الأقدام ، تمشي في أخر المارة بالهوينى التي اعتادت عليها ، يتفاجأ بهم يفقد صوابه يرمي بهاتفه جانباً يدوس على فرامل سيارته بقوة بالغة تصدر صوتاً مخيف، تنحرف السيارة في الاتجاه الأيسر من الشارع ، ترتطم بالرصيف الإسفلتي الذي تضع للتو بدور فيه أولى خطواتها نحو بر الأمان ، تحس بأن الموت يداهمها فتصرخ صرخة عالية ليلتفت الجميع إليها يرقبون المشهد الفضيع ، يا ترى ماذا سيحدث ؟!


تقف السيارة الفارهة فاقدة هيبتها وبينها وبين اغتيال براءة بدور طرفة عين ، القدر أوقفها هناك ليمنح لبدور فرصة أخرى للعيش في دوامة هذه الحياة ومتاهاتها ، تشهق بدور شهقة عالية جاذبة نفس الصعداء لترتمي جانباً خايرة القوى فاقدة العزم على الحراك تتكئ على لافتة مرورية ، ينسدل شعرها بلون الليل المعتم على كتفيها الناحلين ، تبعد خصلاته المتناثرة على وجهها بأناملها الرقيقة لتتمكن من رؤية الحقيقة ، الناس التفوا من حولها يتفرجون وهي لا تفقه لقول شيء ، الصمت يعم المكان سوى من لغة العيون ، الجميع تجمع حول بدور بينما السائق مرتطما رأسه بمقود السيارة لم يعره أحد اهتماماً ، ( مجنون ، متهور ،طائش ، مغرور ) تعلو أصوات الحضور بهذه الكلمات ، ( لعله يتأدب ويرتدع ) قالها أحد المارة لزميله وكأنه يكن في قلبه حقداً لهذا السائق المتهور.لكنه أردف قائلاً وهو يتنهد: الرحمة ما تزال في قلوبنا .. هكذا أوصانا الإسلام لنذهب ونسعفه إذاً، يفتحون باب السيارة تمتد أيادي المسعفين ، يخرجونه فتتساقط من جيبي دشداشته الزرقاء نقوداً مختلفاً ألوانها ، يسيل لها اللعاب فترمقها العيون بنظرات الإعجاب وحب التملك ، ولكن لا تمتد الأيدي إليها ، يأتي رجال الشرطة فيطرحون اسئلتهم باحثين عن الأجوبة يتفحصون السيارة فيجمعون ما يجدونه فيها ويحتفظون به لديهم .


يهم الحضور بمغادرة المكان كل حسب وجهته التي كان يرغب الذهاب إليها ، ولكنهم ما زالوا يحركون السنتهم بذلك المشهد الفضيع الذي كاد أن يودي بحياة البريئة بدور ، ينتشر الخبر في أرجاء الحي كل يحوره بطريقته ويصيغه بأساليب التشويق المختلفة ، فهنالك من يبرع في سرد أحداث القصة بدرجة تفوق كتّاب سيناريوهات الأفلام العالمية .


ينحسر ضوء الشمس تدريجياً شيئاً فشيئاً ، يعلو صوت المؤذن " الله أكبر الله أكبر " يتهافت جموع المصلين نحو المساجد ، صلاة المغرب قد حانت ، نهضت بدور من مكانها وبدأت تسحب ذيل ثوبها البالي متجهة نحو ما يشبه غرفة ضيقة أسمتها بيتاً واعتادت على ذلك كل يوم، يكاد سقفها يسقط على رأس المسكينة ، جدرانها متصدعة وأرضها تفوح بطيب الأتربة الناعمة التي تتقاذف نحو أنفها الشاحب لتغلق مسامات صدرها النحيف الذي تزينه نتؤءات العظام وفحمات الجسد.


اعتادت بدور أن تجد مساء كل يوم لقيمات من الأرز البارد بالكاد تسد رمقها وتصلب عودها اللين تضعها إحدى النساء التي حرمها الله من نعمة الإنجاب وسط تلك الغرفة ، مسكينة هذه المرأة اعتادت كل يوم أن تأتي بالأكل لبدور ساخناً شهياً ، ولكن بدور لا تجده إلا بارداً ، وجدت هذه المرأة في بدور صورة لإبنتها التي تمنت أن يرزقها الله بها ، فتحاول كل يوم أن تجدها في غرفتها ولكن هيهات عليها ، فبدور اعتادت أن تستيقظ في الصباح الباكر فتخرج إلى حيث يقدر الله لها فلا تعاود بيتها إلا بعد قضاء يوم حافل من المسير الشاق تطوف به مختلف أرجاء الحي ، وقد يتعدى ذلك أحياناً إلى الأحياء المجاورة والطرق العامة ، لا أحد يعلم غايتها ، ولا مخلوق يفهم هدفها سوى هي ذاتها .


أحمد الشكيلي


9 / 12 / 2006م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق