مجموعة انسان

إنسان أنا ،،، يتجمع بداخلي مجموعة بشر ،،،

أحمد الشكيلي



" قــيّـد ألفاضك وراقب أفكارك واحسب للكلمة حساباً فإن الزلة ذلة وخطل الكلم يوجب الندم "
قرأتها في كتاب : قصائد قتلت أصحابها لعائض القرني

السبت، 3 أكتوبر 2009

الأربعاء الأسود

الأربعاء الأسود

ها هي لحظات الأربعاء تقترب رويداً رويدا ، وهاهي نار الشوق تزداد سعيراً ولهبها يزداد علواً وبريقا ، كل شيء كان بجسدي خاملاً أصبح أنشط من كل نشيط ، رقبتي ترتفع عاليا بين فينة وأخرى ترقب ساعة الحائط ، وبعد طول انتظار يقرع جرس الساعة معلناً ولادة يوم جديد " الثانية عشر صباحاً " بتوقيت مسقط ، الهدوء بدأ يخيم على المكان وعقارب الساعة تمضي على مهل متثاقلة مسيرها ، شيئاً فشيئاً تخفت الأصوات تدريجياً إلا من صوت أجهزة التكييف التي تحيل الداخل إلى مرتع جميل للأحلام السعيدة بينما تجعل من الخارج أشبه بحرارة يوم قائظ وما يزال القيظ بعيدا .
تقودني قدماي إلى تلك الغرفة التي استقبلتني منذ خمس سنين في مسقط ففرشت لي أرضها الصلبة وساداً وسقفها الذي لم يعد يحتمل زخات المطر لحافاً ، أفتح الباب فأجد فراشي على حاله ينتظرني لنتبادل سوياً شجون الليل حتى تبزغ شمس النهار فينتشر ضوءها في الأفق معلنة بداية يوم عمل جديد .
النشاط في هذا اليوم ليس طبيعياً والالتفات للساعة أكثر من ذي قبل ، النهار يمضي ببطء شديد والأعمال المتراكمة تنجز تباعاً ، لا مجال للتأجيل ولا سبيل للتسويف وعمل اليوم لليوم .
الكل يراقب ساعته ويتكلم عن الزحام المروري الذي سيجده في طريقه إلى بلده فيتأفف ويتذمر ليلقي باللوم بعدها على الجهة المسؤولة لسوء تخطيطها لشوارع العاصمة ، فالكل يريد أن يصل إلى قريته سريعاً دون تعب أو تأخير ، الساعة الآن تقترب من الثانية عشر والثلث ظهراً ، يرتفع صوت الآذان فتهرع جموع الموظفين الى المساجد " الظهر والعصر جمعاً وقصراً " قالها أحدهم لزملائه وهو يردف قائلاً ( ورانا درب ) !
تباً لهذا اليوم فبالرغم من جماله إلى إنه مملاً فساعات العمل لم تنقض بعد ، لماذا هذا التطويل في دوام يوم الأربعاء ؟
لقد حان وقت نهاية الدوام ، إنها الثانية والنصف ظهراً والشمس تسطع في كبد السماء بأشعتها العمودية تزيد من حرارة الجسد وتستدعي الخيال للإنطلاق والعقل للتركيز وسط معمعة السيارات وزواميرها الصاخبة التي تحول أرجاء المكان إلى ورشة حدادة ... الطريق جداً طويل والمسافة بعيدة والحرارة شديدة وفوق كل ذلك فهي الأربعاء والشوق يحث على المسير بعجالة شديدة بإتجاه المكان الذي يحب كل منا أن يكون فيه ، ولكن ما تزال هناك مهمة أخرى قبل مغادرة العاصمة الجميلة لابد من القيام بها ، فأفراد العائلة هناك بين جدران تلك الشقة ينتظرون وصولي على أحر من الجمر لنذهب سوياً إلى البلد فالأطفال منهم لا يحبذون الذهاب إلا معي .
أصلُ إلى الشقة فأجد أفراد العائلة يجتمعون في عجالة على مائدة الغداء ، الأطفال أنزووا بعيداً لا يرغبون في أكل شيء ، بينما انفتحت شهيتهم للبلاد واستنشاق هواءها أكثر فهم حبيسي الجدران الأربعة طيلة أيام الأسبوع لا يبرحون مكانهم إلا لمدارسهم فالمكان الذي إليه الذهاب خير من المكان الذي منه المسير ولو كثر جماله وزاد حسنه فلابد من ( البلاد وإن طال السفر ) ..
ترفع المائدة ، تغسل الصحون ، طرفة عين فإذا بالجميع يلتفون حول السيارتين ، ( عمي أنا أجي معك ) قالها نصر ، وأضاف قائلاً ( أبوي ما يسرع ويوصل البلاد متأخر ) ، ركبنا سيارتنا واتجهنا في طريق العودة بدأنا نردد ( نصر* نصوري ... رايح البلاد ... بلادي البعيدة ... الخ ) وهي عبارات بسيطة اعتدت أن أداعب بها نصر الطفل الصغير واعتاد إخوانه أن يتغنوا بها في طريق عودتهم للبلاد ، صمت الجميع بعدها لتمتد يمناي إلى مفتاح المذياع فيعلو صوت سالم السعدي مترنما بالميدان ومتغنياً به .
نتفاعل مع البرنامج الإذاعي لننتقل بعدها إلى حديث أغلب ما فيه العاطفة وأجمل ما فيه الصراحة وأعذب ما فيه براءة الطفولة التي تأتي بالكلمة دون حواجز ، ابتسامات الأطفال وقهقهتهم وتساؤلاتهم الغريبة التي تبحث عن إجابة لظواهر الطبيعة ومجريات الحياة وكأن فكرهم قد كسر كل القيود التي كانت تكبله طيلة الخمسة أيام الماضية ليقودهم للانطلاق بخيالهم الواسع لخارج حدود المألوف تجعلني احتار كثيراً لأجد إجابة تستوعب تساؤلاتهم الغريبة ، ولكن في النهاية أجد ما يقنعهم ويشبع نهمهم الفكري.
نسير على صفيحٍ رقيق من حديد فالساعة تقترب من الثالثة والنصف والموعد المرتقب جداً مهم ما يزال أمامنا نصف ساعة قادمة وساعتين أخرى في رصيدنا وفقاً لقوانين وزارة الصحة ، إذن سنتمكن من زيارة الوالد في المستشفى ونجلس معه حتى السادسة فساعة واحدة تكفينا هذا اليوم ، وغدا الخميس يوم إجازة رسمية سنقضي الصباح بجانب سرير الوالد ثم نعاود الكرة في المساء حتى يخرجنا حارس الأمن ، ما رأيكم يا أولاد ( قلت وكنت متيقن إجابة القبول منهم )فأجابوا بصوت واحد ( انزين ) .
لحظة فلحظة تقصر المسافة تدريجياً ينطوي بعد الطريق ولكن ما يزال أمامنا ما يقارب نصف المسافة ، هناك تقبع ولايتنا خلف هذه السلسلة الجبلية الشاهقة والممتدة نحو البعيد ، لماذا لا تقوم الحكومة بتكسير هذه الجبال لتختصر لنا المسافة فتوفر لنا الكثير من الوقت والمال ؟ _ قلت في نفسي ذلك _ ولكن الإجابة تأتي مسرعة لتقول لي انظر إلى عظمة الخالق ومدى علو هذه الجبال وضخامتها ، كم من الوقت ستحتاج لتكسيرها وكم من الأموال ستنفق والجهود التي ستبذل لتسويتها بالأرض ؟!! فعلاً إن الأمر مكلف جداً ولا داعي للقيام به فهناك أولويات أخرى تقوم بها الحكومة والأهم أولى من المهم .
تذهب بي الأفكار قريباً وبعيداً أسبح في بحرٍ من الأفكار وأحلام اليقظة التي تزاور كل من يطمح لشيء قد يراه بعيد المنال ، أغرق في تفكير عميق وسط حكايا الأطفال ودعاباتهم الظريفة ، (عمي وين إحنا ؟ ) قالها نصر ليقطع عليّ خلوتي بنفسي ، ( إحنا قرب سمائل )ــ أجبته باختصار شديد ـــ عدتُ بعدها مباشرة لأخلد لصمتي وتفكيري وتأملاتي اللا محدودة التي تأبى التكنولوجيا الحديثة إلا أن تقطعها عليّ ، صوتٌ يأتي من سماعة هاتفي المتهالك :
( ما عاد بدري قلت لي وش تحرى
ذابت نجوم الليل من جمر الآهات
ما عاد بدري تدري العمر مرا
سرقت سنينه مننا كيف لحظات
تقول باكر وانت باكرك برا
برا الزمن واقف على مر الأوقات
بتنتهي الدنيا قبل ما تجرا
لاضاعت الفرصة ترى الموت حسرات )
سبحتُ في خيال هذه الأغنية الجميلة حتى امتدت يدي لتخرج هاتفي من جيبي الأيمن ، الرقم الظاهرُ على شاشة الهاتف هو رقم أحد الأصدقاء المقربين للعائلة ، لكن ماباله يتصل بي في هذا الوقت من الظهيرة على غير عادته ، كما أنه لم يعتد محادثتي هاتفياً إلا ما ندر وللضرورة القصوى ـــ تسألت في قرارة نفسي ذلك ـــ دعني أرد لأعرف الجواب : السلام عليكم ، وعليكم السلام ، كيف حالك ، الحمد لله بخير ( الأمر غريب فهذا صوت أخي ، ما الذي جمع الإثنين في هذا الوقت فالساعة الآن الرابعة عصراً والمسافة بين الإثنين نصف ساعة بسيارة تسير على سرعة مائة كيلو متر في الساعة ) قلتها في نفسي ، يسألني أخي (أحمد وين انته ؟) ( الحين في سمائل ! ، ( خير أيش هناك ) قلت متسائلاً ومستغرباً من السؤال مبدياً نبرات الاستغراب في صوتي ، بكل ثقل وحزن شديد ونبرات الحزن تختلط بصوت البكاء ( رحمة الله تغشى المؤمنين ) قالها أخي ، تنطلق حنجرتي من مكانها يعلو صراخي فيصبح الفعل عكسياً لتكبس قدمي على فرامل السيارة بلا شعور ، ماذا تقصد ؟ قلتها بصوت عالي وأظن بأن من في السيارة المجاورة سمعوني ! ( أبويي توفى الآن ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ) ، لألألألألألألألألألأ ... بكاء بداء يعتصرني ، أحشائي ترتطم بعضها بعضاً ودموع تسيل على خديّ المترهلين ، ( موه هناك عمي ؟) قالها هادي ووجهه بدأ يميل للإحمرار وعيناه بدأت تضخ شيئا من الدمع الطفولي الممزوج ببداية الولوج في دوامة الحياة ( جدكم مات ! ) قلتها والبكاء يكاد يقطع أوصالي ، علا صراخهم وكثر دمعهم حتى نصر ذلك الطفل المسكين نضحت عيناه دمعاً بريئا كبراءة طفولته الغضة ، فهو لأول مرة يعرف معنى الموت فلم يسبق له أن عاش موقف فقد إنسان عزيز في العائلة .
تتحول السيارة إلى صراخ وعويل ، بكاء ونحيب بمختلف الأصوات ، غمامة سوداء تضلل طريقي ، صداع يجتاح رأسي ، ضيق نفسي شديد ، ارتفاع في معدل التنفس بكاء في بكاء ، تنطلق السيارة شاقة أمامها طريق العودة يرتفع مؤشر السرعة عالياً فهاهي تتجاوز المائة والأربعين كيلو في الساعة ، أجهزة ضبط السرعة تكبل الشارع بين فينة وأخرى ، لا شك إنها ستجد فريسة سهلة هذا اليوم ، سيكون يومها هذا استثنائياً بمثابة عيدٍٍٍٍِ لها فستضمن أن تجني مني مبلغاً كبيراً من المال يترك هناك في خزانة الشرطة .تباً لها هذه الرادارات ! قلتها يصوت عالي كصوت بكائي .
أكملتُ مشوار الطريق تضللني سحابة حزن سوداء تتقاذفني الآهات ويتجاذبني النواح ، أبي مات ، مات سريعاً فلم يمهله المرض الذي تعاون معه من يدعونهم بالأطباء وهم لا يفقهون في الطب شيئاً سوى أسبوعين فقط لتأتي النهاية المحتومة في الثالثة واثنتين وخمسين دقيقة على سرير المستشفى ليصبح اليوم أسوداً بكل ما تحمله كلمة السواد من معنى إنه حقاً أربعاء أسود لن تنسى ذاكرتي سواده القاتم ولن تبرح مخيلتي أحداثه المؤلمة ( ورحمة الله تغشى المؤمنين ).



أحمد الشكيلي
7/ 5 / 2006 م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق